تخطي إلى المحتوى
أن تُصبح أسيرا لذكرياتك... هذا بحد ذاته كارثة لماذا يشتهر العباقرة بالشرود والنسيان وما هي أولويات الأذكياء للذاكرة أن تُصبح أسيرا لذكرياتك... هذا بحد ذاته كارثة لماذا يشتهر العباقرة بالشرود والنسيان وما هي أولويات الأذكياء للذاكرة > أن تُصبح أسيرا لذكرياتك... هذا بحد ذاته كارثة لماذا يشتهر العباقرة بالشرود والنسيان وما هي أولويات الأذكياء للذاكرة

أن تُصبح أسيرا لذكرياتك... هذا بحد ذاته كارثة لماذا يشتهر العباقرة بالشرود والنسيان وما هي أولويات الأذكياء للذاكرة

"مرحبا، أنا آينشتاين، هل يمكنك اصطحابي إلى المنزل من فضلك؟"كانت هذه هي كلمات عالم الفيزياء العبقري ألبرت آينشتاين لأحد أصحاب المتاجر في يوم ما أثناء فترة عمله كمحاضر في جامعة "برينستون" في نيوجيرسي. طلب آينشتاين ذلك الطلب، لأنه كان دائم الشرود والنسيان، لا يعرف قيادة السيارة، وربما عنوان المنزل أيضا، ولا يهتم بمعرفة تلك التفاصيل الحياتية.

ويذكر والتر إيزاكسون في كتابه "آينشتاين - حياته وعالمه" العديد من المواقف الحياتية التي أبرزت نسيان آينشتاين، على الرغم من ذكائه الذي رأى الكون بمنظور مختلف. من بين تلك المواقف، أنه في يوم ما عام 1900، أصر والده عليه أن يذهب للعيش معهما في ميلانو، وسافر بالفعل، لكنه نسي في زيوريخ ملابس نومه، وفرشاة أسنانه، ومشط شعره.

آينشتاين عالم الفيزياء العبقري الذي غير مفهومنا للكون عبر نظرياته التي كشفت لنا عن نسيج "الزمكان"، وجعلنا ندرك الزمن بصورة لم يفكر بها البشر من قبل، اشتُهر بنسيانه وشروده أيضا، بل إن النسيان والشرود كانا يميزانه.

في السيرة الذاتية لكثير من العباقرة، نجد أن الشرود والنسيان كانا جزءا لا يتجزأ من حياتهم، خصوصا عندما يتعلق الأمر بحياتهم اليومية. وهذا يقودنا إلى سؤال مهم، ألا وهو: هل النسيان دليل على العبقرية أم المرض؟

حسنا، تلك قصة طويلة، لنبدأ من طريقة تشكل الذاكرة. قبل ذلك، أخبرني ثلاث معلومات درستها في حصة العلوم الثالثة عندما كنت بالصف الخامس. فكر قليلا. لا تتذكر؟ لا بأس، سأُخبرك لاحقا بالسبب.

تخيّل معي أن الدماغ مثل المصفاة، يستقبل المعلومات، ويفسرها، ثم يخزن بعضا منها، وبذلك يمكنه استرجاعها عند الحاجة من أجل استخدامها في المستقبل. لكن، لماذا يحتفظ ببعض المعلومات بينما يتجاهل بقيتها؟ ببساطة، هذا يعود إلى كيفية عمل المصفاة أو بالأحرى آلية عمل الدماغ وطريقة تعامله مع الذكريات.

تمر الذاكرة بمراحل أساسية عدة حتى تبقى في الدماغ، تبدأ بالسجل الحسي، الذي يتضمن حصول الدماغ على المعلومات من البيئة المحيطة عبر الإشارات السمعية والبصرية، تستمر عملية السجل الحسي لثوانٍ معدودة، ولكي تنتقل تلك المعلومات إلى المرحلة التالية، يلزم الانتباه. 

هل كنت تبحث عن الجوال بينما هو بالفعل في يدك الأخرى تتحدث إلى صديقك؟ يا إلهي!

إذا كنت مررت بهذا الموقف، فهذا لأن الانتباه كان غائبا في مرحلة السجل الحسي، ولم تنتقل المعلومات (الجوال الذي في يدك) إلى المرحلة التالية، وهي مرحلة تكوين الذاكرة القصيرة المدى، التي تخزن المعلومات بصورة مؤقتة، لكن إذا لم تكرر المعلومة في هذه المرحلة، قد تذهب بلا عودة، لذلك هناك الذاكرة العاملة، وهي تحتفظ بالمعلومات بهدف معالجتها، تمهيدا لنقلها إلى الذاكرة الطويلة المدى، مجرد أن تصل المعلومات إلى تلك المرحلة؛ فهي تستقر هناك إلى أجل غير مسمى.

وليست كل المعلومات التي درستها في الصف الخامس تصل إلى مرحلة الذاكرة الطويلة المدى. وهذا ما اجتهد العلماء في تفسيره. بالعكس، إن غالبية المعلومات التي تلقيتها في أثناء الحصة، تاهت بسرعة.

 

ان معدل نسيان المعلومات لوغاريتمي وليس خطيا

عالم النفس الألماني هيرمان إبنغهاوس

في أواخر القرن التاسع عشر، بينما كان العالم منهمكا بالثورة الصناعية، كان عالم النفس الألماني هيرمان إبنغهاوس مشغولًا في دراساته وأبحاثه عن الذاكرة والنسيان، ولأن التجربة الذاتية تكشف الكثير للعلماء، راح إبنغهاوس يحفظ 169 قائمة لمقاطع عديمة المعنى، يتكون كل مقطع من 3 حروف، بعد ذلك أعاد حفظ تلك القوائم بعد فترة انقطاع تراوحت بين 21 دقيقة إلى 31 يوما.

لاحظ إبنغهاوس أن النسيان كان سريعا بعد حفظ القوائم في المرة الأولى، لكن بعد مرور بعض الوقت، صار معدل النسيان بطيئا، وخرج من تلك التجربة بـ"منحنى النسيان"، واستنتج أن معدل نسيان المعلومات لوغاريتمي وليس خطيا. لاحظ إبنغهاوس شيئا آخر شيقا، ألا وهو المعرفة اللاواعية، وهذا يعني أنه عاد لحفظ المقاطع نفسها بعد 5 أو 6 سنوات، سيتذكرها أقوى من نظيره الذي يحفظها للمرة الأولى.

وتقترح الأبحاث نظريتين للنسيان: نظرية التلف، وهي تعني تدهور الذاكرة إذا لم تتكرر ذكرى معينة. أما عن النظرية الأخرى؛ فهي نظرية التداخل، وتستنتج أن المعلومات الجديدة التي يتلقاها الدماغ، تحل محل المعلومات القديمة. لكن، على الرغم من أن النسيان قد يمثل مشكلة لبعض الناس، إلا أن هذه العملية ضرورية.

النسيان يعبر عن مرونة الذاكرة

وبينما كان يظن علماء الأعصاب حتى خمسينات القرن الماضي أن النسيان إشارة إلى خلل ما في أعصاب الدماغ، أثبتت الأبحاث أن هذا غير صحيح، وإنما النسيان يعبر عن مرونة الذاكرة. ويساعد الدماغ في تعزيز عملية اتخاذ القرار، وذلك عبر تجاهل المعلومات غير المهمة والقديمة، فاحتواء الدماغ على ذكريات كثيرة، يصعّب عملية اتخاذ القرار. من جانب آخر، الاحتفاظ بالمعلومات القيّمة.

 

إن النسيان يمنع الإفراط في التفكير في الأحداث السابقة، ويحد من تأثيرات المعلومات القديمة على عملية صنع القرار الموجه للذاكرة، مما يعزز مرونة الذاكرة

الدكتور بول فرانكلاند، عالم في الأعصاب والصحة العقلية

وهذا ما كشفت عنه دراسة أجراها الدكتور بول فرانكلاند، عالم في الأعصاب والصحة العقلية وزميله؛ إذ وجدا أن النسيان يمنع الإفراط في التفكير في الأحداث السابقة، ويحد من تأثيرات المعلومات القديمة على عملية صنع القرار الموجه للذاكرة، مما يعزز مرونة الذاكرة. بالتالي، هدف الذاكرة ليس نقل المعلومات عبر الزمان، لكن، تحسين عملية اتخاذ القرار عبر التمسك بما هو مهم والتخلي عن الأشياء غير المهمة. ونشر العلماء ما توصلوا إليه في دورية "نورون" (Neuron) في يناير/كانون الثاني للعام 2017.

في هذا الصدد، تواصلنا مع الدكتور بول فرانكلاند الذي قال لـ"المجلة" عبر البريد الإلكتروني: "نعم، لقد أوردت دراسة عام 2017 بأن بعض أشكال النسيان قد تكون مفيدة بطريقتين. الطريقة الأولى هي فقدان الذاكرة التفصيلية، مما يسمح للفرد برؤية الغابة، وليس الأشجار إذا جاز التعبير. الطريقة الثانية التي قد يكون فيها النسيان مفيدا هي أنه يسمح لنا بتجاهل المعلومات القديمة".

ويضيف فرانكلاند: "بالطبع لن يكون هذا مفيدا في حالة عدم تغير أي شيء في بيئتنا المحلية. حيث كل شيء ثابت. لكن في العالم الحقيقي، تتغير الأمور طوال الوقت، وما كان من المفيد تذكره في لحظة ما قد يصبح أقل أهمية مع مرور الوقت".

ويوضح فرانكلاند لـ"المجلة" أن نسيان التفاصيل أحيانا يسمح برؤية "الصورة الكبرى" بشكل أفضل، وهذه القدرة هي التي قد تكون مهمة لأنواع الرؤى الأساسية التي كان يمتلكها أشخاص مثل آينشتاين.

لذلك، ربما لم يغضب نابليون بونابرت من عالم الرياضيات الشهير أندره ماري أمبير، عندما دعا الأخير على العشاء، وبعد مرور ساعة على الموعد المحدد مسبقا لم يأتِ أمبير، الذي نسي أمر دعوة العشاء تماما، فجلس بونابرت يتناول عشاءه ملتمسا العذر للعالم المشهور بعبقريته ونسيانه وشروده.

النسيان أو الشرود ليسا من علامات الغباء، بل إن هناك ضجيجا في أدمغة العلماء، هناك عاصفة من الأفكار، يحتاجون لترتيبها، ربما فكرة من ضمنها تغير تفكير البشر تماما وكذلك نظرتهم لما يحدث حولهم

يُحكى أن الفيلسوف الإغريقي طاليس ميليتس، كان في إحدى المرات مندمجا في متابعة نجوم سماء الليل، وفجأة وقع في بئر. النسيان أو الشرود ليسا من علامات الغباء، بل إن هناك ضجيجا في أدمغة العلماء، هناك عاصفة من الأفكار، يحتاجون لترتيبها، ربما فكرة من ضمنها تغير تفكير البشر تماما وكذلك نظرتهم لما يحدث حولهم.

وقد كشفت دراسة منشورة في دروية "نوروسيكولوجيا" (Neuropsychologia) في أغسطس/آب 2017، أن الأشخاص الذين يعانون من الشرود الذهني أو أحلام اليقظة، يميلون إلى أن يكونوا أكثر ذكاء وإبداعا من غيرهم. وشرود العقل، هو حالة تركيز الانتباه على الأفكار الداخلية التي لا علاقة لها بالمهمة الحالية، وكما ذكرنا، الانتباه ضرورة لنقل المعلومات من السجل الحسي لمرحلة الذاكرة القصيرة المدى. لذلك، يصعب تشفير الذكريات وحفظها.

أمبير، العالم العبقري الذي ترك إرثا علميا لا يزال أثره واضحا في حياتنا اليومية، وتُنسب إليه وحدة القياس الأساسية للتيار الكهربائي، اعتاد طلابه على أنه قد يضع طباشير السبورة في كوب الماء بدلا من السكر، أو يصطدم بشجرة في فناء الكلية في أثناء تفكيره في مسألة ما، ثم يعتذر من الشجرة ظنا منه أنها إنسان. وقد ينهمك في كتابة حل إثبات جديد على لوحة سوداء أمامه في الشارع، ثم فجأة تتحرك بعيدا عنه؛ فيكتشف أنه كتب على باب عربة وليست سبورة المحاضرات.

يبدو أن الشرود والنسيان لازما علماء آخرين أيضا، مثل اسحق نيوتن، الذي كان ينهمك في التفكير في نظرياته، وينسى أمر الطعام تماما حتى يبرد.

أولويات الأذكياء والذاكرة

عندما ينسى الدماغ معلومة ما، فهذا لا يعني وجود خلل أو فجوة في العملية المعرفية، وإنما محاولة للتركيز على أشياء أكثر أهمية وتبسيط للمفاهيم.

"لا تحفظ أبدا شيئا، يمكنك البحث عنه"

كان هذا رد آينشتاين على شخص طلب منه رقم هاتفه، فراح آينشتاين يفتح دليل الهواتف، للبحث عن رقمه. ببساطة، لم يكن آينشتاين يشوش ذهنه بأشياء يمكنه البحث عنها.

لدينا في أدمغتنا ما يصل إلى 100 مليار خلية عصبية، ألا تكفي تلك الأعداد المهولة لتخزين ما يحصل في حياتنا؟ لكن ماذا لو احتفظت ذاكرتك بكل تفاصيل حياتك؟

 

في هذا الصدد، يقول الدكتور رونالد ديفيس، الذي يشغل حاليا منصب أستاذ في قسم علم الأعصاب في معهد سكريبس للأبحاث في فلوريدا لـ"المجلة": "جميعنا ننسى بعض الأشياء في حياتنا اليومية، سواء أكان ذلك عبقريا أم لا، ويمكن تفسير بعض هذا النسيان على الأقل في الأوقات التي نصبح فيها منشغلين بشكل مفرط بأشياء أخرى في حياتنا، مثل الأزمات والتوتر وما إلى ذلك. بالإضافة إلى ذلك، أعتقد أن أولئك الذين نعتبرهم عباقرة غالبا ما يركزون على الأشياء الأكثر أهمية بالنسبة اليهم، وبالتالي ينسون بعض الأشياء التي يحكمون عليها بأنها أقل أهمية".

ويتابع: "أعتقد أن الأفراد الأذكياء يقررون بوعي أو بغير وعي أن يتذكروا المهم بالنسبة اليهم وينسوا التافه. قد يقوم الدماغ بتنشيط الدوائر "المثبطة" التي تمنع تذكر الأشياء غير المهمة".

لدينا في أدمغتنا ما يصل إلى 100 مليار خلية عصبية، ألا تكفي تلك الأعداد المهولة لتخزين ما يحصل في حياتنا؟

لكن فكر معي، ماذا لو احتفظت ذاكرتك بكل تفاصيل حياتك، وتذكرت تفاصيل المواقف السعيدة والتعيسة على حد سواء، أن تُصبح أسيرا لذكرياتك بكل ما فيها، هذا بحد ذاته كارثة. لذلك، وصف عالم الأعصاب السوفياتي ألكسندر لوريا مريضا كان يتمتع بذاكرة قوية، يمكنه تذكر كل شيء بتفاصيل رائعة، بأنه معاق، وبأن ذاكرته غير مرنة! هذا بحد ذاته يشير إلى أهمية عملية النسيان كعنصر أساسي وحاسم في نظام الذاكرة الصحية.

عزيزي، ليس عليك تذكر كل ما حصل في حصة العلوم الثالثة عندما كنت في الصف الخامس. لو سألت آينشتاين، لما تذكر، ولو سألت أمبير، لما عرف اسم المدرسة التي درس فيها أساسا.

المصدر: 
مجلة " المجلة"